فصل: مطلب الآيات المدنيات وسبب نزولها والحكمة من تأخيرها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسياق ما قبله النهي عن أفعال المتجبرين وكذلك سياق ما بعده وهو قوله: {وَاقْصدْ في مَشْيكَ} توسط وليكن بين الهرولة والتبختر وأن يكون تؤدة بالسكينة والوقار لأن الهرولة تذهب بهاء المؤمن والتبختر من الكبر وكلاهما مذموم راجع الآية 37 من الإسراء في ج 1، وقوله تعالى: {وَاغْضُضْ منْ صَوْتكَ} ما استطعت وكلم الناس بقدر ما يسمعون ففيه الوقار لك والكرامة لمن تكلمه وكانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به قال شاعرهم:
جهير الكلام جهير العطاس ** جهير الرداء جهير النعم

فجاء الإسلام بذمه لأن خفض الصوت أوقر للمتكلم واحفظ للأدب وأدمث للخلق وأبسط لنفس السامع وأدعى لفهمه ويكفي فيه ذما قوله تعالى: {إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوات} أقبحها وأوحشها وأمجّها للطبع {لَصَوْتُ الْحَمير} وذلك لأنه أشبه بأصوات أهل جهنم من حيث أوله زفير وآخره شهيق ولزيادة علوه يكاد أن يصرع سامعه القريب.
فترشد هذه الآية الكريمة إلى أن رفع الصوت غاية في الكراهة ومخالف للآداب وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ويكره أن يكون جهيره، راجع الآية الأخيرة من سورة الإسراء في ج 1 تعلم أن كل هذا يؤيد ما جرينا عليه من أن المراد بالتصعير الإعراض عن الناس بالوجه تجبرا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماوات وَما في الْأَرْض} من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغيرها والبحار والأنهار والمعادن والدواب وغيرها فكل ما فيها مسخر لمنافعكم أيها الناس {وَأَسْبَغَ} أتم وأكمل وأفاض {عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظاهرَةً وَباطنَةً} لتدركوها بحواسكم الظاهرة والباطنة المتقدمة في الآية 5 من سورة يوسف المارة، ومن النعم الظاهرة حسن الصورة واعتدال القامة وكمال الأعضاء والنطق بجميع الحروف والرزق والمال والجاه والأولاد والخدم والأمن والأدب والعافية التي هي أساس لكل نعم وكل نعمة دونها ليست بنعمة، ومن النعم الباطنة العقل والفهم والفكر والمعرفة والخلق الحسن والتروي في الأمر وعدا ذلك نعم كثيرة ظاهرة وباطنة أنعم اللّه بها على عباده لا يحصيها العبد ولا العد؛ قال تعالى: {وَإنْ تَعُدُّوا نعْمَةَ اللَّه لا تُحْصُوها} الآية 18 من سورة النحل ومثلها الآية 24 من سورة إبراهيم الآتيتين فراجعهما، ثم طفق جل شأنه يذكر بعض أحوال المتنطعين فقال: {وَمنَ النَّاس مَنْ يُجادلُ في اللَّه بغَيْر علْمٍ} نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وأبي بن خلف وأضرابهم الذين كانوا يجادلون حضرة الرسول في صفات اللّه تعالى وهم جهال في اللّه لا علم لهم يستدلون به على جلال صفاته {وَلا هُدىً} يهتدون به إلى الصواب ليعرفوا عظيم قدرته وجليل هباته {وَلا كتابٍ مُنيرٍ} يسترشدون به إلى أوامره ونواهيه ليعرفوا الحق من الباطل ومن كان كذلك ليس له أن يجادل في شيء من آيات اللّه فضلا عن ذاته المقدسة، أما أهل العلم والهدى والكتاب فإنهم لا يجادلون في ذلك لكمال يقينهم وصدق إيمانهم وقوة دينهم وشدة عقيدتهم فيه، وهؤلاء الفسقة.
{وَإذا قيلَ لَهُمُ اتَّبعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ} واتركوا هذا الجدال المجرد عن أدلة عقلية صحيحة أو نقلية صريحة لأنها غير مستندة إلى كتاب أو اقتداء برسول {قالُوا بَلْ نَتَّبعُ} في هذا الجدال والمراء {ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءَنا} من التقاليد المتناقلة، قال تعالى: {أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ} أي آباءهم الذين كانوا يقتفون آثارهم {إلى عَذاب السَّعير} أي أيتبعونهم ولو كانوا كذلك؟! وهذه الآية على حد قوله تعالى: {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} الآية 170 من البقرة في ج 3 بعد قوله حكاية عنهم {بَلْ نَتَّبعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْه آباءَنا} والواو هنا حالية والاستفهام للتعجب {وَمَنْ يُسْلمْ وَجْهَهُ} نفسه من اطلاق الجزء وإرادة الكل وإنما صح لأن الإقبال بالوجه إقبال بالكل {إلَى اللَّه} بأن يفوض أمره إليه ويخلص بقلبه وقالبه لجلاله {وَهُوَ مُحْسنٌ} في أعماله وأقواله {فَقَد اسْتَمْسَكَ} توثق على أتم حال {بالْعُرْوَة الْوُثْقى} القوية من الشدة في الحبل المتين المأمون الانقطاع أي اعتصم بعهد اللّه الذي لا ينقض ووعد اللّه الذي لا يخلف بخلاف عهد ووعد الكفرة الذين لا يهمهم النكث فيه والخلف له لعدم تقيدهم بدين صحيح يرجعون إليه، مثل اللّه تعالى حال المتوكل عليه المخلص له بحال المتدلي من علو أو المترقي إلى فوق المحتاط لنفسه من الوقوع بأن يتمسك بأمتن عروة من عرى الحبل {وَإلَى اللَّه عاقبَةُ الْأُمُور} 22 لا لأحد سواه وله فيها الأمر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {وَمَنْ كَفَرَ} بعد إبداء هذه الدلائل الناصعة والإرشاد الصريح {فَلا يَحْزُنْكَ} يا سيد الرسل {كُفْرُهُ} لأن وباله عائد عليه وهو وأضرابه {إلَيْنا مَرْجعُهُمْ} في الآخرة، جمع الضمير باعتبار معنى من حيث تصلح للجمع والافراد {فَنُنَبّئُهُمْ بما عَملُوا} في الدنيا ويحاسبهم عليه ويجازيهم بمقتضاه {إنَّ اللَّهَ عَليمٌ بذات الصُّدُور} دخائلها فما بالك بغيرها إذ هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، تأمل فيما حكاه اللّه عن لقمان في مخاطبته لابنه تعلم بعض معلومات اللّه في خفايا الأمور، قال تعالى وهؤلاء {نُمَتّعُهُمْ} في هذه الدنيا {قَليلًا} مدة آجالهم المقدرة لهم فيها في علمنا وهي مهما كانت، قليلة {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} نلجئهم في الآخرة فنردهم ونسوقهم سوقا عنيفا {إلى عَذابٍ غَليظٍ} قاس شديد فظيع لا يقادر قدره ولا تطيقه الأجسام، قال تعالى: {وَلَئنْ سَأَلْتَهُمْ} فقلت يا سيد الرسل لعبدة الأوثان {مَنْ خَلَقَ السَّماوات وَالْأَرْضَ} فإنهم حتما {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وحده خلقها وبرأ ما فيها فيا أكرم الرسل {قُل الْحَمْدُ للَّه} على إلزامهم الحجة بالإقرار على دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها الجاحد المكابر {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنهم ملزمون بهذا الإقرار حتى إذا نبهتهم لم ينتبهوا له.
وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 7 فما بعدها من سورة العنكبوت الآتية إن شاء اللّه {للَّه ما في السَّماوات وَالْأَرْض} ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبمن فيهما كيف شاء {إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنيُّ} عن جميع عباده وكل مكوناته {الْحَميدُ} في ذاته وصفاته وأفعاله.

.مطلب الآيات المدنيات وسبب نزولها والحكمة من تأخيرها:

وهذه الآيات المدنيات الثلاث وسبب نزولها أن اليهود قالوا يا محمد بلغنا أنك تقول: {وَما أُوتيتُمْ منَ الْعلْم إلَّا قَليلًا} الآية 85 من الإسراء في ج 1 أتعنينا بهذا أم قومك فقط؟ قال كلا عنيت، قالوا ألست تقول وتتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء يريدون الآية 145 من الأعراف في ج 1 والآيات 43 فما بعدها من المائدة في ج 3 قال صلّى اللّه عليه وسلم هي من علم اللّه قليل وقد آتاكم اللّه بما إن عملتم به انتفعتم يعني القرآن قالوا تزعم هذا وأنت تقول: {مَنْ يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتيَ خَيْرًا كَثيرًا} الآية 269 من البقرة في ج 3، لأن هذه الحادثة وقعت بالمدينة بعد نزول سورة البقرة وهي أول ما نزل فيها فكيف يجتمع علم قليل مع خير كثير فأنزل اللّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّما في الْأَرْض منْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} مدادا حبرا يكتب فيها كلها {ما نَفدَتْ كَلماتُ اللَّه} إذ لا نهاية لها {إنَّ اللَّهَ عَزيزٌ} لا يعجزه شيء منيع لا يغلبه غالب {حَكيمٌ} لا يخرج أمر عن حكمته وهذه ماهية علم اللّه وقد آمنت بها لأنه كما أنه لا يعرف كنه ذاته أحد فلا يعرف ملاك علمه أحد ولا يحيط علم الخلق كلهم بمعلوماته وهذه الآية أبلغ من آية الكهف 108 الآتية المتقدمة عليها في النزول لأنها مكية وهذه مدنية فراجعها فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، قال تعالى: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ} أيها الناس بالنسبة لقدرة الخلاق {إلَّا كَنَفْسٍ} أي خلق وبعث نفس {واحدَةٍ إنَّ اللَّهَ سَميعٌ} لأقوالكم {بَصيرٌ} بأعمالكم فاحتفظوا أن يراكم حيث نهاكم {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهار} يدخله ويدبحه فيه {وَيُولجُ النَّهارَ في اللَّيْل} أيضا بصورة مستمرة {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} منهما {يَجْري إلى أَجَلٍ مُسَمًّى} عنده دائبا إلى يوم القيامة راجع الآية 13 من سورة فاطر في ج 1 والآية 5 من سورة الزمر الآتية {وَأَنَّ اللَّهَ بما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ} لا يخفى عليه شيء من أعمالكم كلها ولقائل أن يقول ما هو السبب في تأخير هذه الآيات عن سورها ولم تنزل معها المكية في مكة والمدنية في المدينة؟ فنقول إن تأخيرها لأمر اقتضته الحكمة الإلهية، لأن اللّه رتب الأسباب على مسبباتها، وقد سبق في علمه الأزلي أن يكون السؤال عنها والواقعة المنبئة عنها في المكان والزمان الذي قدره لها أزلا فأخر تنزيلها لوقتها، لأن لكل شيء أجلا ولكل أجل كتاب وقد ذكرنا غير مرة أن أفعال اللّه لا تعلل وأن ما جاء عنه وعن رسله مما لم نعقله لقصر فينا يجب أن نعتقده ونعمل فيه ولا نسأل عن السبب إذ علينا الامتثال والإيمان والتسليم وإلا إذا ترددنا وشككنا أو توقفنا فلسنا بمؤمنين ولا مسلمين، تدبر هذا وسلم تسلم.
واعلم أن كل ما خطر ببالك فاللّه فوق ذلك ويكفيك أنه لا يسأل عما يفعل، راجع بحث نزول القرآن في المقدمة تعلم أن {ذلكَ} الإله القادر على خلق السموات والأرض وما فيهما المدبر أمرهما والمسخر ما فيهما من أجرام مولج الليل في النهار وبالعكس ومجري الكواكب في أفلاكها بانتظام والجاعل ما فيها منه ما هو مستقر وما هو سائر في محوره وما هو جار في غيره وما هو طالع وما هو آفل الذي جعل في هذا العكس والطرد والاختلاف والاتفاق والسير والقرار الجاعل فيها منافع مخصوصة منها ما اطلع عليه البشر ومنها ما لم يطلع عليه تعلم أيها القارئ المتدبر {بأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} وأن ما يوقعه في ملكه هو الحق وأنه الإله الذي لا إله غيره المستحق للعبادة المستجيب للدعاء {وَأَنَّ ما يَدْعُونَ منْ دُونه هو الْباطلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَليُّ} في صفاته {الْكَبيرُ} السلطان في ذاته العظيم الشأن المتعال في أسمائه الحسنى ونظير هذه الآية الآيتين 7: 63 من سورة الحج في ج 3.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْري في الْبَحْر بنعْمَت اللَّه} عليكم أيها الناس {ليُريَكُمْ منْ آياته} العجيبة الدالة على كمال قدرته {إنَّ في ذلكَ} السير على الهواء المجرد مع عظمها وثقل حمولتها {لَآياتٍ} بديعات {لكُلّ صَبَّارٍ} على أوامره وتحمل ابتلائه {شَكُورٍ} لنعمائه في سرانه وضرائه، وهذان الوصفان من أكمل سمات المؤمن لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وإنما ذكر اللّه تعالى هذين الوصفين بعد ذكر الفلك لأن الراكب فيها لا يخلو عنهما كما لا يخلو من الاستدلال على قدرة اللّه وعظيم نعمته على خلقه.
قال تعالى: {وَإذا غَشيَهُمْ} الكفرة المذكورين أثناء ركوبهم البحر {مَوْجٌ كَالظُّلَل} بارتفاعه إذ يصير فوقهم كالظلة يظل من تحته كالسحاب والجبل الشاهق ورأوا الموت بأعينهم بأن تحقق عندهم الغرق {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلصينَ لَهُ الدّينَ} وينسون أوثانهم التي يشركونها في عبادته حالة الرخاء والأمن وذلك لعلمهم أنه لا ينجيهم من الشدائد إلا هو {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرّ} وأمنوا الغرق الذي كان محيقا بهم {فَمنْهُمْ مُقْتَصدٌ} متوسط في حاله لانزجاره في الجملة عدل فيما عاهد اللّه عليه، ومنهم من لم يوف بعهده ولم يعتبر بما أراه اللّه من الخوف والأمن وهو المعنى بقوله تعالى: {وَما يَجْحَدُ بآياتنا إلَّا كُلُّ خَتَّارٍ} غدار نكاث للعهد نقّاض للوعد {كَفُورٍ} جحود لتلك النعمة كما هو جحود لغيرها من قبل ولم يذكر في هذه الآية السابق بالخيرات لأن الأصناف ثلاثه، راجع الآية 32 من سورة فاطر في ج 1.
وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنهما، وما قيل إنها نزلت في عكرمة ابن أبي جهل حين هرب عام الفتح إلى البحر وقد أمّن رسول اللّه الناس إلا أربعة، إذ قال صلّى اللّه عليه وسلم اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة.
وهم عكرمة هذا وعبد اللّه ابن حنظل ومقيس بن حبابة وعبد اللّه بن أبي صرح، وأنه لما ركب البحر جاءهم ريح عاصف فقال أهل السفينة أخلصوا للّه ربكم فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة لئن لم ينجني في البحر الإخلاص للّه الواحد فما ينجيني في البر غيره، اللهم إن عافيتني مما أنا فيه لآتين محمدا وأضع يدي بيده ولأجدنّ عفوا كريما، فسكن الريح فرجع إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه رضي اللّه عنه لا يصح، لأن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة وعكرمة أسلم سنة الفتح فبين نزول هذه الآية وحادثة إسلام عكرمة سنتان وإن ما نزل بعد الهجرة يكون مدنيا وعكرمة بعد إيمانه ذلك لا يسمى مقتصدا بل كامل الإيمان لأنه جاء طائعا راضيا مختارا إلى حضرة النبي وآمن به إيمانا خالصا وعمل بإيمانه ومات عليه، قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزي والدٌ عَنْ وَلَده} فلا يفيده شيئا ولا يغنيه من عذاب اللّه فتيلا {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والده شَيْئًا} حذف شيء من الأول لدلالة الثاني عليه على حد قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف

وذلك لأن كل إنسان يقول فيه نفسي نفسي فلا شفقة ولا خلة ولا شفاعة إذ ذاك إلا لمن ارتضى فإذا كان هؤلاء ينقطع بينهم المودة ولا أشفق من الوالد على ولده ولا أعظم حجة منه له ولا حق أكبر من حق الوالد على ولده ولا أوجب حرمة عليه منه ولا طاعة له إلا للّه ومع هذا لا يلتفت أحدهم للآخر فغيرهم من باب أولى وذلك لشدة الهول واهتمام كل امرئ بنفسه قال تعالى: {لكُلّ امْرئٍ منْهُمْ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ يُغْنيه} الآية 18 من سورة عبس المارة ج 1، وهذا مما وعد اللّه به عباده {إنَّ وَعْدَ اللَّه حَقٌّ} كائن لا محالة في ذلك اليوم الذي يكون فيه المشاححة بين الناس كما أن وعده في غيره حق أيضا {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ} أيها الناس هذه {الْحَياةُ الدُّنْيا} لأنها فانية فلا تنخدعوا بزخارفها وتمويهها {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ باللَّه الْغَرُورُ} الشيطان الذي أوقعه في البلاء غروره وكل ما يغر الإنسان من مال أو جاه أو شهوة فهو غرور لأنها كلها من طرق الشيطان التي يزينها للناس فهو أخبث الغاوين فلا يرجيكم بالتوبة ويمنيكم بالمغفرة، وإنه يدس لكم السم في الدسم لأن الإنسان لا يدري متى يباغته أجله وإذ ذاك يندم ولات حين مندم وتكون ممن سقط في يده راجع الآية 5 من سورة فاطر في ج 1 في هذا البحث، فعلى العاقل أن يسرع في التوبة ويجتهد في العبادة كي يلاقي ربه على حالة مرضية، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه فلربما جاءه الموت وهو يتلبس بحالة سيئة والعياذ باللّه فيندم من حيث لا ينفعه الندم واللّه تعالى وإن أمهل عبده فإنه لا يهمله وقد يستدرجه من حيث لا يعلم.

.مطلب الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى.

{إنَّ اللَّهَ عنْدَهُ علْمُ السَّاعَة} وقت قيامها في أي سنة وشهر ويوم وساعة ولحظة من ليل أو نهار {وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ} في الوقت والزمان والمكان الذي يريده ويقدره له بقدر معلوم عنده {وَيَعْلَمُ ما في الْأَرْحام} هل ذكر هو أم أنثى تام الخلق أم ناقصه أو زائد فيه، احمر أو أسود أو ما بينهما من الألوان حين قذف النطفة من الرجل في رحم المرأة كما يعلم أجله ورزقه وشقيا أو سعيدا وما يعتريه من تكوينه إلى موته وإلى بعثه وحشره وإلى دخوله الجنة أو النار وما بعد ذلك، فالأشعة الحديثة عجزت عن معرفة الولد بعد كمال خلقه في بطن أمه أهو ذكر أم أنثى واللّه تعالى أخبر أنه يعلم ذلك كله وهو نطفة في الرحم لم يكوّن بعد كما يعلم ما وراء ذلك من الحالات التي تعتوره إلى ما شاء اللّه والبوصلة المحدثة لمعرفة نزول المطر المشار إليها في الآية 102 من سورة الصافات المارة لا تدل إلا على ترطيب الجو المستفاد منه مظنة نزول المطر خلال أربع وعشرين ساعة على الأكثر ولا يمكن بوجه من الوجوه أن يعرف منها وقت نزوله على الضبط البتة، لأن اللّه تعالى قد يحدث في الجو ما يسلب منه تلك الرطوبة التي دلت عليها الإبرة من تأثير الرياح أو غيرها فلا ينزل المطر لذلك فلا تتعارض هذه الإبرة وغيب اللّه تعالى، لإنه مما اختص به فالبشر مهما بلغ من العلوم والمعارف عاجز أن يعلم شيئا من الغيب المبين في هذه الآية.
وبمناسبة هذا كان أخبرني ذات يوم السيد جميل بك السلاحوار من أهالي حلب بأن أذهب إلى الدار لأنه ستصير اليوم عواصف قوية، فقلت له من أين عرفت هذا؟ قال من الإبرة الموجودة لدي فقلت له لا يكون شيء إن شاء اللّه، فقال لابد من كونه، ثم تفرقنا ولم يقع شيء طيلة اليوم والليلة، فصادفته في اليوم الثاني وقلت له أين ما أخبرتني به من العواصف البارحة، فقال يا أخي إنه أمر محقق ولكن حدث في الجو تبدل حال دون وجودها واللّه على كل شيء قدير، فقلت له من الآن فصاعد لا تجزم بشيء من هذا فإن اللّه تعالى يغير الأحوال، فقال آمنت باللّه وصدقت.